المدينة بين نهاية العصر القديم ومطلع القرون الوسطى
الجولات ومجموعة المقتنيات
توسعت المنطقة السكنية بين العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين وشهدت حركة عمرانية تسببت بضياع العديد من الآثار التي كانت لتتيح ترسيم معالم المدينة في الحقبة بين نهاية العصر القديم ومطلع القرون الوسطى. فكانت البحوث الأثرية في تلك الحقبة تركز على الجوانب الجمالية للقطع الأثرية ولا تكترث بالقطع الصغيرة والبنى التحتية والتراكمات الترابية للحقبة الكلاسيكية. وتكررت المعضلة لاحقا بمناسبة أشغال عامة طارئة ونتيجة الافتقار إلى دراسات معمقة وتخطيط طويل المدى.
المدينة بين نهاية العصر القديم ومطلع القرون الوسطى:
التخطيط العمراني
أعمال البناء العام والبناء الخاص
ابتداء من منتصف القرن الرابع ق.م. شهد النشاط الإسكاني في المدينة تحولا وسياقا جديدا ساد حتى مطلع القرون الوسطى.
تتركز الآثار السكنية بصورة خاصة في فسحة الأكروبوليس القديمة وفي الحي الشرقي، على غرار النمط العمراني السابق. ولقد أدت الإصلاحات الإدارية والمالية للإمبراطورية إلى تغيير في وظائف ووجهة استعمال بعض المباني العامة لدرجة أنه تم مثلا الكشف عن مجموعة مقابر مثل الكهف الجنائزي أسفل مبنى بالاتسو دِلي بونتي في المدينة العتيقة ومدافن قرب الساحة العامة. كما تسجَّل أيضا على صعيد المباني العامة عمليات ترميم وتغييرات وبناء ترافقت مع استصلاح ورفع مستوى ساحة كاستِلّو وطول الطرف الشمالي إضافة إلى ورشة حمامات بِنتاشينِنسي التي تحتوي على لوحة تذكارية للأشغال. أما المباني ذات الطابع السكني، وهي مؤشر لوجود نخبة حضرية تتمتع بسعة العيش، فتوجد على مقربة من المباني العامة التي بقيت نشطة.
شهدت المدينة تغييرات أهم قدراً على الصعيد العمراني بمناسبة إعادة الإعمار التي أرادها الإمبراطور البيزنطي نيسيفيرو الثاني فوكا. فتم توسيع الفسحة المخصصة للبناء على طول الجانب الشمالي للأكروبوليس عبر عملية ردم ترابي متواصل مع طرفها الصخري الطوفي، كما تمّت أعمال بناء قرب الكاتدرائية وجرى تحصين المنحدر الشرقي للأكروبوليس، وقد تم العثور على آثار لتلك الأعمال في القصر الأراغوني. وشهدت الأحياء في أسفل المدينة بناء مساكن شعبية في مجموعات طويلة وضيقة، وكان يربط بين أحياء المدينة العليا والسفلى طريق تم الكشف عن كهوف عديدة طواله وهو مواز لشارع فيا كافا الحالي.
أرضية فسيفسائية متعددة الألوان، القرن الخامس م.
البنى التحتية
من المحتمل أن مواقع البنى العمرانية الأساسية في نهاية العصور القديمة ومطلع القرون الوسطى كانت تحاكي مواقع البنى التحتية السابقة، فعلى سبيل المثال، كشفت أعمال تنقيب عرضية في موقع الكاتدرائية الرومانسكية سنة 1931 عن طريق “ديكومانو” التي استمر استخدامها حتى العصر البيزنطي، وتصح الاعتبارات نفسها بالنسبة إلى الأسوار الدفاعية التي أعيد تنظيمها بمناسبة إعادة إعمار المدينة سنة 967 م.
المواقع المسيحية
تسود الشكوك حول مواقع الأماكن المسيحية في النسيج الحضري للمدينة في نهاية العصور القديمة ومطلع القرون الوسطى. تفتخر الكنيسة في تارانتو كما في أقاليم عديدة بجذورها الرسولية في سياق تبشير القديس بطرس. يعود هذا المعتقد إلى مطلع القرون الوسطى ولا يرتكز إلى أي معطيات تاريخية مؤكدة. وتعود أقدم شهادة حول تواجد مبان دينية في المدينة إلى كتاب أرسله البابا جيلازيو الأول سنة 494 م. إلى سكان تارانتو ويعلن فيه إيفاد أسقف جديد إلى المدينة ويعطي توجيهات حول طقوس منح سر المعمودية. تناقض دراسات حديثة، على ما يبدو، التقليد القائل إنه تم العثور على بقايا بازيليك زمن البابا جيلازيو في مواد بناء سرداب الكنيسة الرومانسكية، بيد أن أعمال تنقيب أثرية في المنطقة كشفت عن مبنى عبادة يتضمن محرابا ومتواصل مع مدفن قد يعود إلى فترة مابين نهاية القرن السادس ومطلع القرن السابع م. ومما لا شك فيه أن السلطات الدينية الكاثوليكية كانت منتشرة ومنظمة في المدينة حيث تشير مصادر دبلوماسية لسنة 1080 إلى وجود سبعة مبان دينية من كنائس وأديرة إضافة إلى الكاتدرائية داخل أسوار المدينة (الوسط التاريخي حاليا).
المدينة في نهاية العصور القديمة ومطلع القرون الوسطى
الاقتصاد: الانتاج، التجارة والاستهلاك
يبدو اقتصاد المدينة في نهاية العصور القديمة جيدا وكان قوامه إنتاج زراعي مزدهر وتصنيع الارجوان، ويؤكد ذلك اكتشاف العديد من الفيلات الريفية. وتم الكشف عن أدوات من السيراميك المستوردة من افريقيا (أواني فخارية مختومة، أدوات سيراميك للطهي، مصابيح، أمفورات) ومن الشرق (أواني فخارية مختومة، أدوات سيراميك للطهي، أمفورات) مما يؤكد وجود طرق تجارية باتجاه الشمال التونسي ابتداء من القرن الرابع والنصف الأول من القرن الخامس م.، وباتجاه شرقي المتوسط (خصوصا نحو تركيا الحالية) ابتداء من منتصف القرن الخامس والقرن السادس م.؛ علاوة على ذلك، يؤكد اكتشاف قطع سيراميك من جزيرة بانتِلِّريّا، رغم كميتها الضئيلة، على الدور الاستراتيجي لمرفأ المدينة. كما تم العثور على أدوات طهي من الخزف محلية الصنع غير ملونة أو مغطاة بالطلاء الأحمر أو البني أو الرسوم الهندسية وتندرج في سياق الإنتاج التقليدي للجنوب الإيطالي، إضافة إلى أدوات تستخدم في تقيلد المنتجات المستوردة كمصفوفة لصنع المصابيح أو نفايات الأفران.
قليلة الأدلة الأثرية المفيدة لترسيم معالم الاقتصاد الحضري في مطلع القرون الوسطى، بيد أنه يمكن استخلاص بعض المعلومات من المصادر المكتوبة، ويروي المؤلف المجهول لكتاب “كرونِكون سالِرنِتانوم” (حكايات عن سالِرنو) عن الحملة اللومباردية سنة 839 م. ويقول عن المدينة إنها مكتظة بالسكان وغنية، فيها المطاعم والأسواق، تكثر فيها المأكولات والخمور من نوعيات مختلفة، تعرض فيها للبيع سلع مختلفة مثل الأواني الفخارية ويدّعي المحررون أنهم تجارا كي لا يلفتوا الأنظار. أما الراهب الفرنكي بِرناردو فجاء في كتابه “إيتينيراريو” (870 م.) أنه أبحر من تارانتو باتجاه الأراضي المقدسة وأن مصادره مبجّلة، كما يأتي على ذكر قيام سفينتين بالإبحار باتجاه شمال افريقيا وسفينتين أخريين نحو طرابلس الشرق.
مصباح من طرابلس، بين القرنين الرابع والسادس م.
المدينة في نهاية العصور القديمة ومطلع القرون الوسطى
ملتقى شعوب متناحرة غالبا : البيزنطيون، اللومبارديون، العرب واليهود
تظهر التعددية الثقافية للمدينة جليا عبر الأدلة الأثرية وبوجه خاص عبر السلع المستوردة والمسلات الجنائزية والكتابات المنقوشة عليها باللغات اليونانية واللاتينية والعبرية والتي تم العثور عليها في مقبرة مونتيديرو اليهودية، كما تستند إلى مصادر مكتوبة حيث الاتصالات لم تكن دائما تتسم بالروح المسالمة. وجاء على لسان المؤرخ بروكوبيو دي شيزاريا أن مرفأ المدينة شهد عمليات عسكرية خلال الحرب بين الإغريق والقوطيين، وتمركز قوات القائد البيزنطي جوفانّي في المدينة سنة 546 م.؛ وفي سنة 663 م. قام الإمبراطور كوستانتِه بإنزال على رأس الجيش البيزنطي لمواجهة اللومبارديين في بِنِفِنتو الذين بقوا في تارانتو حتى الفتح الإسلامي سنة 840 م. أبتداء من ذلك التاريخ ولحوالي أربعين سنة تحكّم العرب بالمسارات البحرية في البحر الأيوني، بيد أنهم ضمنوا إلى حد ما استمرار توافد الحجاج المسيحيين باتجاه الأراضي المقدسة. أدت استعادة المدينة من قبل البيزنطيين سنة 880 م. إلى سبي السكان وبيعهم كعبيد واستُقدم إلى المدينة سكان جدد من مختلف أنحاء الإمبراطورية وأيضا من منطقة بيلوبونيز.